إلى أى مدى يصح لنا الاعتماد على التاريخ لنحكمه في قصص القرآن؟


 


الاستاذ أحمد الشايب


 


رداً على المبشرين ومن لف لفهم الذين يطعنون في صدق القصص القرآنى و يدّعون لذلك أنه مخالف للتاريخ القديم من جهة، و لما في التوراة و الانجيل من جهة ثانية، نقول وبالله التوفيق :


إلى أى مدى يصح لنا الاعتماد على التاريخ لنحكمه في قصص القرآن؟ كان المعقول أن نتخذ من التاريخ الوثيق مقياساً نحتكم اليه في بيان القيمة الواقعية الحقة لقصص القرآن، ولكن صحة المنهج تقضينا أن نوثق التاريخ أولا، و أن ننتهى إلى أنه حق مطلق لاتحريف فيه و لا تبديل، و هنا نسير مطمئنين في ضوء الحق اليقين لنقيس عليه القصص القرآنى و نفصل في قيمته التاريخية، ولكن أنّى لنا هذه الثقة الحاسمة في أخبار التاريخ القديم الذي لم يدوّن في حينه، و لم تستكشف وثائقه و مصادره، و ان ما يروى منه نتف مضطربة، و أساطير تافهة، و روايات مخلطة، لاتنتهى أبداً إلى يقين يمكن الاطمئنان اليه أو الاعتماد عليه في تحقيق صور الماضى و اتخاذها مقياساً حاسماً نحتكم اليه في بيان صدق القرآن أو ضد ذلك.


ويأكد الرازي أن تواريخ موسى و فرعون قد طال بها العهد و اضطربت الاحوال و الادوار، فلم يبق على كلام أهل التاريخ اعتماد في هذا الباب، فكان الاخذ بقول الله أولى )). تفسير الرازى، ج 7 ص 218.


و يقول الأستاذ الشيخ محمد عبده عن حال التاريخ قبل الاسلام : (( كانت مشتبهة الاعلام، حالكة الظلام، فلا رواية يوثق بها، و لاتواتر يعتد به بالاولى )) يقول هذا الكلام في نسبة قصص القرآن إلى التاريخ، و قبل ذلك قال : (( يظن كثير من الناس الان - كما ظن كثير من قبلهم - أن القصص التي جاءت في القرآن يجب أن تتفق مع ما جاء في كتب بني اسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق أو كتب التاريخ القديمة )) ثم يقول في هذا الشأن نفسه : (( و إذا ورد في كتب أهل الملل أو المؤرخين ما يخالف بعض هذه القصص، فعلينا أن نجزم بأن ما أوحاه الله إلى نبيه ونقل الينا بالتواتر الصحيح هو الحق و خبره الصادق، و ما خالفه هو الباطل، و ناقله مخطىء أو كاذب فلا نعده شبهة على القرآن و لا نكلف أنفسنا الجواب عنه )) و يقول : (( و قد قلت لكم غير مرة انه يجب الاحتراس في قصص بني اسرائيل و غيرهم من الانبياء، و عدم الثقة بما زاد على القرآن من أقوال المؤرخين و المفسرين، فالمشتغلون بتحرير التاريخ و العلم اليوم يقولون معنا انه لايوثق بشىء من تاريخ تلك الازمنة التي يسمونها أزمنة الظلمات الا بعد التحرى و البحث و استخراج الاثار، فنحن نعذر المفسرين الذين حشوا كتب التفسير بالقصص التي لايوثق بها لحسن قصدهم، ولكننا لانعول على ذلك بل ننهى عنه و نقف عند نصوص القرآن لانتعداها و انما نوضحها بما يوافقها إذا صحت روايته. تفسير المنار: ج 1 ص 347. ))


و نحن مع ذلك لن نغلق باب الجدل في وجه المعارضين، فليأتوا بدليل يثبت دعاواهم ان كان عندهم دليل، أما أن يعكسوا الوضع و يفرضوا على القرآن تهماً من عند أنفسهم، ثم يلجئوا إلى آى الذكر الحكيم فيتعسفوا في فهمها، و إلى أقوال العلماء فيفهموها خطأ أو يحرفوها و يبتروها و يزوروا فيها - كما سترى - فإن ذلك لايستحق الوقوف عنده، و لا الاستماع اليه.


أما عن التوراة و الانجيل و مكانهما من التوثيق، و ما عسى أن يكون لهما من حجية في هذا السبيل، فإن الأمر فيهما سهل نترك الكلام فيه لاصحابهما و قبل ذلك أرجو أن يلاحظ القراء أن ما أورده هنا ليس الا نقطة صغيرة جداً مما نشر في هذا الموضوع، و لم يقصد به مهاجمة أهل الكتاب، و ان كان يحتمه البحث العلمى المنصف المستنير، و نبدأ بالتوراة :


يعترف القرآن الكريم بالتوراة كما أنزلت على موسى، أى في صورتها الاصيلة، غير المبدلة، و سأترك شهادة القرآن بذلك الان، و أورد ما قاله العلماء الغربيون أنفسهم، فالتوراة عبارة عن الاسفار الخمسة الاولى من العهد القديم : تكوين - خروج - لاويين - عدد - تثنية. فالسفر الاول يتناول قصة خلق العالم، و الثانى خروج بني اسرائيل من مصر و فيه الوصايا العشر من صورتين مختلفتين يرجح أنها ليست لموسى، و سفر اللاويين خاص بالطقوس الدينية و هارون و أبنائه، و سفر التثنية أو تثنية الشريعة أو اعادتها، و لم يصلنا هذا السفر في صورته الاولى، بل تناولته يد التغيير و التبديل، و النص الموجود يدل على أنه خليط من نسخ متنوعة مختلفة، و يرجح أن تأليفه كان بعد عصر النبوة، و لا يوجد في التوراة التي بين أيدينا خبر يدل على أن موسى هو الذي جاء بها، أو أنها هي التي أنزلت عليه، بل على النقيض من ذلك يوجد فيها ما يؤيد عكس ذلك من ذلك ما جاء في الاية السادسة من الاصحاح الرابع و الثلاثين من سفر التثنية عن وفاة موسى : (( و لايعرف شخص قبره حتى يومنا هذا )) فبعيد كل البعد أن يكون هذا الخبر صادراً عن موسى نفسه، و في الاية العاشرة من نفس الاصحاح : (( لم يقم بعد نبى في بني اسرائيل مثل موسى )) و بعيد جداً أن يكتب موسى عن نفسه في الاية الثالثة من الاصحاح الثانى عشر من سفر العدد فيقول : (( و أما الرجل موسى فكان حليماً جداً أكثر من جميع الناس الذين على وجه الارض )) فمثل هذه الايات تدل على أن المؤلف شخص آخر غير موسى.


و قد أثبت النقد العلمى الذي نهض به ربانيو اليهود أن التوراة التي بين أيدينا ليست من تأليف شخص واحد، و نتيجة هذا و غيره أن التوراة ليست من الثقة بحيث يحتج بها على قصص القرآن و يحتكم في قيمه اليها.


فاذا رجعنا إلى القرآن الكريم بعد ما سبق نجده يقول في سورة الانعام : (( و ما قدروا الله حق قدره إذا قالوا ما أنزل الله على بشر من شىء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً و هدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها و تخفون كثيراً )) و في سورة آل عمران : (( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم و هم معرضون )) يقول الأستاذ الشيخ محمد عبده في تفسير هذه الاية : (( ان ما يحفظونه من الكتاب هو جزء من الكتاب الذي أوحاه الله اليهم، و قد فقدوا سائره، و هم مع ذلك لايقيمونه بحسن الفهم له و التزام العمل به، و لا غرابة في ذلك، فالكتب الخمسة المنسوبة إلى موسى (عليه السلام) التي يسمونها بالتوراة لا دليل على أنه هو الذي كتبها، و لا هي محفوظة عنه، بل قام الدليل عند الباحثين من الاوربيين على أنها كتبت بعده بمئات السنين )) و يقول القرآن الكريم : (( و ان منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب و ما هو من الكتاب و يقولون هو من عندالله و ما هو من عندالله و يقولون على الله الكذب و هم يعلمون )).



كذلك يعترف القرآن الكريم بالانجيل، ولكن في صورته الاصلية التي أوحيت إلى عيسى (عليه السلام)، و لم ينلها التبديل و التحريف : (( وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة و آتيناه الانجيل فيه هدى و نور )). و الاناجيل كثيرة جداً، حتى قيل أنها بلغت نيفاً ومائة انجيل، ولكن الكنائس والمجامع الدينية المسيحية تعترف بأربعة منها، هي انجيل متى، و انجيل مرقس، و انجيل لوقاً، و انجيل يوحنا، و لم يكتب شىء من هذه الاناجيل و لاغيرها في زمن المسيح (عليه السلام) و في حياته، فهى منقطعة السند، و لاتوجد نسخة انجيل بخط من تلاميذ ذلك المؤلف. يقول (هورن) في تفسير التوراة في الفصل الثانى بالقسم الثانى من المجلد الرابع : (( ان الاخبار التي يقصها المؤرخون القدامى للكنيسة عن تأليف الاناجيل بتراء و غير موثوق بها، بل هي هزيلة جداً، حتى لايستطيع الباحث أن يستخلص مها أمراً معينا أو يصل إلى نتيجة ما، و الشيوخ القدماء الاولون صدقوا هذه الروايات الواهية و كتبوها، و جاء الذين بعدهم فقبلوا ما وجدوه مكتوباً تعظيماً لسلفهم، على أن ما في تلك الاناجيل من الاخبار و القصص بعضها باطل، و بعضها صادق، و بعد مضى مدة اعتبرت كأنها فوق النقد )). ثم يثبت أن تلك الاناجيل كتبت بعد المسيح بأزمنة بعيدة، و تقول دائرة معارف الكتاب المقدس (ص 4980) من المجلد الرابع : (( ان العهد الجديد كتبه كتاب مسيحيون للمسيحيين، هذا و انه كتب باللغة اليونانية، و كان أسلوبه باللغة الدارجة و ان ما بين الاناجيل من التناقض مع ذلك لم يكن اتفاقاً و مصادفة، بل كان عن قصد و عمد، و الظاهر أن يد التغيير في نصوصها قد امتدت إليها من عهد قديم منذ طفولتها و الحق الذي ينبغى أن يقال ان العهد الجديد لم يكن يعتبر منذ نشأته أنه كتاب موحى به، لذلك كانت التنقيحات التي تتناوله يقدم عليها في غير ما تردد، و لا تحرج كلما دعت الضرورة إلى ذلك )) و كتب (موريس غوغويل) من علماء فرنساً يقول: (( ان كثيراً من روايات الاناجيل غير واقعية، بل مطبقة على التقاليد النصرانية تطبيقاً لمجرد الدعاية أو بحسب الاعتقاد، و ان هذا في واد، و التاريخ في واد )). والتناقض شائع بين الاناجيل، نذكر منه مثالا واحداً هنا، فقد ورد في انجيل يوحنا الاصحاح 1: أرسل اليهود الكهنة و اللاويين إلى يوحنا (يحيى) ليسألوه من أنت; فقالوا له: هل أنت ايليا؟ فقال لهم: لست ايليا، و قال متى ص 11: ان المسيح قال ان أردتم أن تقبلوا فهذا هو ايليا المزمع أن يأتى، يريد بذلك يوحنا (يحيى) و قال متى أيضاً ص 17: و سأله تلاميذه قائلين: فلما ذا يقول الكتبة ان ايليا ينبغى أن يأتى أولا؟ فأجاب يسوع و قال لهم: ان ايليا يأتى أولا و يرد كل شىء، ولكنى أقول لكم ان ايليا قد جاء و لم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا، كذلك ابن الانسان أيضاً سوف يتألم منهم، حينئذ فهم المسيح أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا).


فأى النصين نصدقه : قول يحيى الذي قال اننى لست بايليا و هو رسول لايكذب أم قول عيسى الذي قال انه ايليا؟ و هذا من أثر المصنفين.


و يقول القرآن الكريم : (( يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب و يعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور باذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم ))، و قال عن اليهود: (( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلا )) ، و يقول : (( يأهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التوراة و الانجيل وما أنزل اليكم من ربكم )) و هكذا ليس الانجيل من الثقة متناً و سنداً حتى يحتج به على قصص القرآن كما يدعى المغرضون.


ننتهى بعد ذلك إلى القرآن الكريم لنعرف مكانته في التوثيق أولا، و موقفه من التاريخ و التوراة و الانجيل ثانياً، و رأيه في قصصه ثالثاً.


و قد بينا منذ حين أن التاريخ القديم الذي يوازنونه بالقرآن، و يريدون أن يحكموه في قصصه، هذا التاريخ لايمكن الاعتماد عليه أو الثقة به، فلا سلطان له على القرآن، و يبقى القرآن بذلك صادق القصص واقعى الانباء، و لا سيما أنه وثيق المتن و السند، كذلك كان موقفه من التوراة و الانجيل، فهو قد أثبت عليهما التغيير و التبديل، و أيده في ذلك ما قاله علماء اليهود و النصارى، و اذاً فلا قيام لشبهة يوردها المبشرون، و أضرابهم على قصص القرآن و تاريخه، كما لاقيمة لما يوردونه على تشريع القرآن و عقائده، فالقرآن مهيمن على كل ما سواه من تاريخ و كتب سماوية، و هو مصدق لها فيما لم يحرف، و مبين لما كانوا يخفون و يحرفون : (( يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب )). (( ان هذا القرآن يقص على بني اسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون )) ، (( و أنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب و مهيمناً عليه )) .


و القرآن يقول عن قصصه كثيراً و دائماً انه القصص الحق، و يقول عن الرسل : (( لقد كان في قصصهم عبرة لاولى الالباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه )) .


و لسنا في حاجة إلى الكلام في توثيق القرآن لولا أننا نكتب هذا سداً لحاجة المنهج من وجه، و لمن يريد أن يلم بذلك ممن لم يستوعبوا تاريخ القرآن، ذلك أن الله تعالى قد تكفل بحفظه : (( انا نحن نزلنا الذكر و انا له لحافظون )) (( وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ))، لذلك توافرت له كل أسباب الحفظ، و تكاملت له عوامل الصيانة، فبقى كما أنزله الله على محمد لم ينله تغيير و لا تبديل . ( راجع مجلة لواء الاسلام سنة 4 عدد 8 للاستاذ عبدالوهاب حمودة.)


فقد كان للرسول كتاب يكتبون الوحى بين يديه على أثر نزول الايات، و من أشهرهم زيد بن ثابت شيخ هؤلاء الكتاب، و كان الرسول حريصاً على أن لايفلت شىء منه، فكان يحرك به لسانه و شفتيه حرصاً على حفظه، فأنزل الله عليه : (( لا تحرك به لسانك لتعجل به ان علينا جمعه و قرآنه فاذا قرأناه فاتبع قرآنه )) ، كما كان يشجع القراء على حفظ القرآن و يحتم على الناس قراءة شىء منه في الصلاة، يقول الله سبحانه وتعالى عن هذا القرآن الكريم : (( بل هو آيات بينات في صدور الذين أتوا العلم )) و هكذا جمع القرآن في حياة الرسول أول ما جمع كاملا وثيقاً محفوظاً في الصدور ومفرقا في السطور، و لما توفي عليه الصلاة و السلام ، أمر أبوبكر زيد بن ثابت فجمع القرآن المفرق في السطور مما كتب فيه من العسب واللخاف، مستأنساً بما حفظ الحافظون، وسجل القرآن في صحف بقيت عند أبى بكر فعمر فابنته حفصة حتى أخذها عثمان و عمل على كتابة عدة مصاحف وزعها بين بعض الامصار الاسلامية، و هي التي بقيت صورتها إلى الان، و يقول الناس دائماً المصحف العثمانى لذلك.


و خلاصة هذا البحث أن القرآن الكريم لايمكن أن يتحاكم إلى التاريخ القديم ولا التوراة و الانجيل، اذ ثبت أنه الثقة الحجة، و أنه هو الذي يهيمن على ما سواه و أن قصصه حق لا شك فيه .


تاريخ الاضافة: 26-11-2009
طباعة