هل شك النبي صلى الله عليه و سلم

هل شك النبي صلى الله عليه و سلم



*قال الله تعالى


﴿ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [ يونس : 94]

أشكل فهم هذه الآية على طوائف من الناس ، وقالوا : كيف يقع الشك من النبي( ص) ؟ وكيف يؤمر بسؤال الذين يقرأون الكتاب من قبله ؟ . وقد أشار ابن القيّم رحمه الله إلى هذا الإشكال ، وبيّن معنى الآية ، وذكر ما قيل في تفسيرها من جوابات لهذا الإشكال ، وما الصحيح من تلك الأقوال ، فقال :

( وقال تعالى : ﴿ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ ، وقد أشكلت هذه الآية على كثير من الناس ، وأورد اليهود والنصارى على المسلمين فيها إيراداً وقالوا : "كان في شك ، فأمر أن يسألنا" . وليس فيها بحمد الله إشكال ، وإنما أتي أشباه الأنعام من سوء قصدهم وقلة فهمهم ، وإلا فالآية من أعلام نبوته( ص) ، وليس في الآية ما يدل على وقوع الشك ، ولا السؤال أصلاً ؛ فإن الشرط لا يدل على وقوع المشروط ، بل ولا على إمكانه ، كما قال تعالى : ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ (الانبياء: من الآية22) ، وقوله : ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ﴾ (الاسراء:42) ، وقوله : ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ (الزخرف:81) ، وقوله : ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾(الزمر: من الآية65) ، ونظائره ؛ فرسول الله (ص) لم يشك ولم يسأل .

وفي تفسير سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله قال : لا أشك ولا أسأل .([1])

وقد ذكر ابن جريج ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : فإن كنت في شك أنك مكتوب عندهم فاسألهم .([2])

وهذا اختيار ابن جرير ؛ قال : ( يقول تعالى لنبيه : فإن كنت يا محمد في شك من حقيقة ما أخبرناك ، وأنزلنا إليك - من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوتك قبل أن أبعثك رسولاً إلى خلقي ؛ لأنهم يجدونك مكتوباً عندهم ، ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتبهم - فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك ، كعبدالله بن سلام ، ونحوه من أهل الصدق والإيمان بك منهم ، دون أهل الكذب والكفر بك .) ([3])

وكذلك قال ابن زيد ؛ قال : هو عبدالله بن سلام ، كان من أهل الكتاب فآمن برسول الله .([4])

وقال الضحاك : سل أهل التقوى والإيمان من مؤمني أهل الكتاب ممن أدرك نبي الله .([5])

ولم يقع هؤلاء ولا هؤلاء على معنى الآية ومقصودها ، وأين كان عبدالله بن سلام وقت نزول هذه الآية ؟! ؛ فإن السورة مكية ، وابن سلام إذ ذاك على دين قومه . وكيف يؤمر رسول الله أن يستشهد على منكري نبوته بأتباعه ؟!.

وقال كثير من المفسرين : هذا الخطاب للنبي ، والمراد غيره ؛ لأن القرآن نزل عليه بلغة العرب ، وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء ويريدون غيره ، كما يقول متمثلهم : "إياك أعني واسمعي يا جارة"([6]) ، وكقوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ (الأحزاب: من الآية1) ، والمراد أتباعه بهذا الخطاب .

قال أبو إسحاق : إن الله تعالى يخاطب النبي ، والخطاب شامل للخلق . والمعنى : وإن كنتم في شك . والدليل على ذلك قوله تعالى في آخر السورة : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ (يونس : من الآية104) .([7])

وقال ابن قتيبة : كان الناس في عصر النبي أصنافاً : منهم كافر به مكذب ، وآخر مؤمن به مصدق ، وآخر شاك في الأمر لا يدري كيف هو ، فهو يقدم رجلاً ويؤخر رجلاً ؛ فخاطب الله تعالى هذا الصنف من الناس ، وقال : فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فسل . قال : ووحّد وهو يريد الجمع ، كما قال : ﴿ يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ (الانفطار:6) ، و : ﴿ يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ﴾ (الانشقاق:6) ، و : ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ﴾(الزمر: من الآية8) . ([8])

وهذا - وإن كان له وجه - ؛ فسياق الكلام يأباه ؛ فتأمله ، وتأمل قوله تعالى : ﴿ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ ، وقوله : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ (يونس:96) ، وقوله : ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ (يونس:99) ، وهذا كله خطاب واحد متصل بعضه ببعض .

ولما عرف أرباب هذا القول أن الخطاب لا يتوجه إلا على النبي قالوا : الخطاب له والمراد به هذا الصنف الشاك . وكل هذا فرار من توهم ما ليس بموهوم ، وهو وقوع الشك منه والسؤال . وقد بيّنا أنه لا يلزم إمكان ذلك ، فصلاً عن وقوعه

فإن قيل : فإذا لم يكن واقعاً ، ولا ممكناً فما مقصود الخطاب والمراد به ؟

قيل : المقصود به إقامة الحجة على منكري النبوات والتوحيد ، وأنهم مقرون بذلك لا يجحدونه ولا ينكرونه ، وأن الله سبحانه أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه بذلك وأرسل ملائكته إلى أنبيائه بوحيه وكلامه ؛ فمن شك في ذلك فليسأل أهل الكتاب . فأخرج هذا المعنى في أوجز عبارة ، وأدلها على المقصود ، بأن جعل الخطاب لرسوله الذي لم يشك قط ، ولم يسأل قط ، ولا عرض له ما يقتضي ذلك

وأنت إذا تأملت هذا الخطاب بدا لك على صفحاته : من شك فليسأل ؛ فرسولي لم يشك ولم يسأل . ) ([9])

الدراسة :

تضمن كلام ابن القيم السابق مسألتين :

المسألة الأولى : في المخاطب بهذه الآية :

هذه المسألة فيها عدة أقوال ذكرها المفسرون ، وقد ذكر ابن القيّم منها ثلاثة :

القول الأول : أن الخطاب على ظاهره للنبي (ص) ، وليس فيه دلالة على وقوع الشك ، ولا السؤال ؛ لأن الشرط لا يدل على وقوع المشروط ، بل ولا على إمكانه . فالنبي (ص) لم يشك ، ولم يسأل . وهذا ما رجحه ابن القيم رحمه الله .

القول الثاني : أن الخطاب للنبي (ص) ، والمراد غيره ؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب ، وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء ويريدون غيره .

القول الثالث : أن الخطاب ليس للنبي (ص) ، وإنما هو للشاكين من الناس ، خاطبهم الله تعالى في هذه الآية ، وقال : فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد (ص) فسل . وهذا القول – وإن كان له وجه - يأباه سياق الآية – كما ذكر ابن القيّم - ؛ لأن الخطابات السابقة ، واللاحقة كلها موجهة للنبي (ص) .

المسألة الثانية : في المراد بالذين يقرأون الكتاب من قبل النبي (ص) :

ردّ ابن القيم على قول من قال : : إن كنت في شك من كونك مكتوباً عند أهل الكتاب في كتبهم فاسأل المؤمنين منهم كعبدالله بن سلام وغيره . ونص على أنه لا يتوافق مع معنى الآية ومقصودها ، وأنه لا يقبل من الناحية التاريخية ؛ لأن إسلام ابن سلام إنما كان في المدينة بعد الهجرة ، وهذه السورة مكية . وأيضاً ؛ كيف يؤمر رسول الله (ص) أن يستشهد على منكري نبوته بأتباعه ؟!.

هذا ما ذكره ابن القيم في هاتين المسألتين ، وأما أقوال أئمة التفسير ؛ فتظهر من خلال هذا العرض :

قرّر ابن جرير في أول تفسيره للآية ما نقله عنه ابن القيّم في كلامه السابق ، وذكر بعد ذلك أن النبي (ص) لم يشك ، وأن هذه الخطاب جار على أسلوب العرب في الخطاب حيث يقول القائل منهم لمملوكه : "إن كنت مملوكي فانته إلى أمري" ، والعبدُ المأمور بذلك لا يشكّ سيده القائل له ذلك أنه عبده . كذلك قول الرجل منهم لابنه : "إن كنت ابني فبرَّني" ، وهو لا يشك في ابنه أنه ابنه . قال ابن جرير : ( وهذا من ذلك ، لم يكن (ص) شاكاً في حقيقة خبر الله وصحته ، والله تعالى بذلك من أمره كان عالماً ، ولكنه جلّ ثناؤه خاطبه خطاب قومه بعضهم بعضاً ؛ إذ كان القرآن بلسانهم نزل . )

ثم ختم تفسيره للآية بالتنبيه على أنه لو قال قائل : ( إن هذه الآية خوطب بها النبيّ (ص) ، والمراد بها بعض من لم يكن صحت بصيرته بنبوّته (ص) ممن كان قد أظهر الإيمان بلسانه ، تنبيهاً له على موضع تعرُّف حقيقة أمره الذي يزيل اللبس عن قلبه ..... كان قولاً غير مدفوعة صحته . ) ([10])

وبهذا يعلم أن قول ابن جرير موافق لما قرره ابن القيّم من نفي الشك عن النبي (ص) ، وأن هذا الأسلوب لا يدل على وقوع الشك ، ويتبين كذلك أنه يصحح القول الثاني .

وأما المسألة الثانية ؛ فقد اختار غير ما رجحه ابن القيم ، وذكر أن المراد : المؤمنون من أهل الكتاب

وبدأ ابن عطية بذكر قول قاله بعض المتأولين ، وهو أن "إن" هنا بمعنى ما النافية ، ثم ذكر أنّ هذا خلاف ما عليه الجمهور ، وهو أنها شرطية على بابها ، ثم قال مرجحاً : ( والصواب في معنى الآية أنها مخاطبة للنبي (ص) والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض )

وقرّر ابن عطية كذلك : أنّ الذين يقرأون الكتاب من قبل هم من أسلم من بني إسرائيل ، كعبد الله بن سلام وغيره .([11])

وأشبع الرازي المسألة الأولى بحثاً ، وفصّل القول فيها تفصيلاً حسناً ، وسأذكر أهم ما أورده عند تفسيره لهذه الآية :

بيّن أن في الآية احتمالين : الأول : أن يكون الخطاب فيها للنبي (ص) . والثاني : أن يكون الخطاب لغيره .

وعلى الاحتمال الأول تحتمل الآية وجوهاً عدة ، هي أقوال للمفسرين . وقد ذكر سبعة وجوه ، أهمها وجهان :

الوجه الأول : أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر ، والمراد غيره . ويدل على صحة هذه الوجه أمور :

الأول : قوله تعالى في آخر السورة : ﴿ قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِي ﴾ (يونس: 104) ؛ فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح .

الثاني : أن الرسول (ص) لو كان شاكاً في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى ، وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية .

والثالث : أنه بتقدير أن يكون شاكاً في نبوة نفسه ، فكيف يزول ذلك الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوته ، مع أنهم في الأكثر كفار ، وإن حصل فيهم من كان مؤمناً إلا أن قوله ليس بحجة ، لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل محرف .

فثبت أن الحق هو أن الخطاب ، وإن كان في الظاهر مع الرسول (ص) ، إلا أن المراد هو الأمة ، ومثل هذا معتاد ؛ فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير ، وكان تحت راية ذلك الأمير رعية ؛ فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص ، فإنه لا يوجه خطابه عليهم ، بل يوجه الخطاب إلى ذلك الأمير ، ليكون ذلك أقوى تأثيراً في قلوبهم .

الوجه الثاني : أن قوله : " فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ فافعل كذا وكذا " قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها البتة بأن الشرط وقع أو لم يقع ، ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع ، بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط . والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين ، فهو كلام حق ؛ لأن معناه أن كون الخمسة زوجاً يستلزم كونها منقسمة بمتساويين ، ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين ؛ فكذا ههنا ؛ هذه الآية تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا ، فأما إن هذا الشك وقع أو لم يقع ؛ فليس في الآية دلالة عليه . وفائدة إنزال هذه الآية على الرسول r هي تكثير الدلائل وتقويتها ، مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر . ولهذا السبب أكثر الله في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة .

وعلى الاحتمال الثاني : يكون المراد بالخطاب الصنف الشاك من الناس . وقد ذكر الرازي هنا ما ذكره ابن قتيبة في قوله الذي نقله ابن القيم

ومع هذا التفصيل لم يصرح الرازي بترجيح أحد هذه الاحتمالات ، إلا أن سياق كلامه يدل على ميله للوجهين المذكورين تحت الاحتمال الأول .

وفي المسألة الثانية ذكر الرازي أن المحققين قالوا : هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبدالله بن سلام ، وعبدالله بن صوريا ، وتميم الداري ، وكعب الأحبار ؛ لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم .

ثم قال : ( ومنهم من قال : الكل سواء كانوا من المسلمين أو من الكفار ؛ لأنهم إذا بلغوا عدد التواتر ، ثم قرؤا آية من التوراة والإنجيل ، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدم محمد (ص) فقد حصل الغرض. ) ([12])

وبدأ القرطبي تفسيره لهذه الآية بقوله : ( الخطاب للنبيّ (ص) والمراد غيره ، أي : لست في شك ، ولكنّ غيرك شك ) ثم ذكر الأقوال الأخرى في تفسير الآية ، ومن الأقوال التي ذكرها : ( الشك ضيق الصدر ؛ أي : إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر ، وٱسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك يخبروك صَبْرَ الأنبياءِ من قبلك على أذى قومهم ، وكيف عاقبة أمرهم . والشك في اللغة أصله الضيق ..)([13]) ولم يصرح بترجيح أيٍّ من الأقوال التي ذكرها ، أو اختياره له ، غير أنه يفهم من طريقته في عرض الأقوال أن القول الذي بدأ به هو المعتمد عنده ، ويؤكد ذلك أنه ختم تفسيره لهذه الآية والتي بعدها بقوله : ( والخطاب في هاتين الآيتين للنبي (ص) ، والمراد غيره ) ([14])
ومما نص عليه أبوحيان هنا :

· الظاهر أن "إن" في الآية شرطية ، خلافاً لمن جعلها نافية .([15])

· ( الذي أقوله : إنّ "إنْ" الشرطية تقتضي تعليق شيء على شيء ، ولا تستلزم تحتم وقوعه ولا إمكانه ، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى : ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ (الزخرف:81)

· ومستحيل أن يكون له ولد ؛ فكذلك هنا : مستحيل أن يكون في شك )

وقرّر أن هذا الوجه لما خفي على أكثر الناس اختلفوا في توجيه الآية ، ثم ذكر ما ذكره المفسرون قبله من أقوال في معنى هذه الآية ([16])

واقتصر ابن كثير على ذكر قول من قال : إن رسول الله (ص) لم يشك ، ولم يسأل مبتدئاً بقول قتادة بن دعامة : بلغنا أن رسول الله (ص) قال : « لا أشك ولا أسأل »([17]) ثم قال : ( وهذا فيه تثبيت للأمة ، وإعلام لهم أن صفة نبيهم (ص) موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب ... ثم مع هذا العلم الذي يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم يلبسون ذلك ، ويحرفونه ويبدلونه ، ولا يؤمنون به مع قيام الحجة عليهم ؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأٌّلِيمَ ﴾( يونس :96-97))([18])

وأما ابن عاشور فذكر أنه لا يستقيم من الاحتمالات في معنى الآية إلا اثنان :

الأول : أن تبقى الظرفية التي دلت عليها " في" على حقيقتها ، ويكون الشك قد أطلق وأريد به أصحابه ؛ أي : فإن كنت في قوم أهل شك مما أنزلنا إليك ، أي : يشكون في وقوع هذه القصص ، كما يقال : دخل في الفتنة ، أي في أهلها . ويكون معنى ﴿ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ : فاسأل أهل الكتاب سؤال تقرير وإشهاد عن صفة تلك الأخبار يخبروا بمثل ما أخبرتهم به ، فيزول الشك من نفوس أهل الشك ؛ إذ لا يحتمل تواطؤك مع أهل الكتاب على صفة واحدة لتلك الأخبار . فالمقصود من الآية إقامة الحجة على المشركين بشهادة أهل الكتاب من اليهود والنصارى قطعاً لمعذرتهم .

والاحتمال الثاني : أن تكون "في" للظرفية المجازية كالتي في قوله تعالى: ﴿ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاءِ ﴾ (هود: 109) ، ويكون سوق هذه المحاورة إلى النبي (ص) على طريقة التعريض ، لقصد أن يسمع ذلك المشركون فيكون استقرار حاصل المحاورة في نفوسهم أمكن مما لو ألقي إليهم مواجهة . وهذه طريقةٌ في الإلقاء التعريضي يسلكها الحكماء وأصحاب الأخلاق متى كان توجيه الكلام إلى الذي يقصد به مظنة نفور كما في قوله تعالى : ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ (الزمر: 65) . أو كان في ذلك الإلقاء رفق بالذي يقصد سوق الكلام إليه .
قال ابن عاشور : ( وكلا الاحتمالين يلاقي قوله: ﴿ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ ؛ فإنه يقتضي أن المسؤول عنه مما لا يكتمه أهل الكتاب ، وأنهم يشهدون به ، وإنما يستقيم ذلك في القصص الموافقة لما في كتبهم ؛ فإنهم لا يتحرجون من إعلانها والشهادة بها . )
ثم بيّن أن غير هذين الاحتمالين يعكر عليه بعض ما في الآية ، وأن المخاطب النبي (ص) لمكان قوله : ﴿ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ ، وليس المراد بضمائر الخطاب كل من يصح أن يخاطب ؛ لأن قوله : ﴿ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ﴾ يناكد ذلك إلا بتعسف . ([19])
وما قرره ابن عاشور يدل على أن المسؤولين هم عموم أهل الكتاب ؛ وأن السؤول عنه مما لا يكتمونه ، وهو القصص الموافقة لما في كتبهم ، التي لا يتحرجون من إعلانها ، والشهادة بها .
وقد سبق ابنَ عاشور إلى هذا التقرير الألوسي ، حيث قال : ( والمراد بالموصول القصص، أي : إن كنت في شك من القصص المنزلة إليك - التي من جملتها قصة فرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل - ﴿ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ ؛ فإن ذلك محقق عندهم ، ثابت في كتبهم حسبما أنزلناه إليك . وخصت القصص بالذكر لأن الأحكام المنزلة إليه عليه الصلاة والسلام ناسخة لأحكامهم مخالفة لها ؛ فلا يتصور سؤالهم عنها .)([20])
النتيجة :
لا خلاف بين المفسرين في نفي وقوع الشك من النبي (ص) ، وأنه لا يحتاج لسؤال أهل الكتاب حتى يتبين له صدق ما أنزله الله تعالى إليه .
وأما الموازنة بين أقوال في المفسرين في توجيه هذا الخطاب ؛ فلا شك أن ما اعتمده ابن القيم ، وقاله أبوحيان وجيه ، وهو أن الخطاب للنبي (ص). وليس في ذلك ما يدل على وقوع الشك منه ؛ لأن الجملة الشرطية لا تستلزم وقوع الشرط ولا الجواب ، ولا إمكان ذلك . وهذا الأسلوب يقصد منه تقرير أمور مهمة ، أهمها أمران :
الأول : تثبيت الأمة المسلمة ، وإعلامهم أن صفة نبيهم (ص) موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب . كما قال ابن كثير .
الثاني : إقامة الحجة على من كذب النبي (ص) ، وكفر بما جاء به ، سواء كان من كفار العرب ، أم من أهل الكتاب .
كما أن القول الذي رجحه ابن عطية ، وقرّر الرزاي صحته وجيه كذلك ، وهو أن الخطاب للنبي (ص) والمراد غيره ممن يمكن أن يقع منه الشك . وهذا قول أكثر المفسرين([21]) ، والشواهد على صحته كثيرة ([22]). وما ذكره بعض المفسرين من كون هذا القول لا يلتئم مع قول الله تعالى في الآية : ﴿ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ﴾ يجاب عنه بأن هذا كقول الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ﴾ (النساء:174) ([23]) ، وكقوله سبحانه : ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (النحل:44) .
وأما المسألة الثانية ؛ فما رجحه ابن القيّم وجيه ، وهو موافق لعموم اللفظ . وقد بيّن الألوسي ، وابن عاشور وجه هذا القول ، وأنهم إنما يسألون فيما لا يكتمونه . وهذه الآية شبيهة بقول الله تعالى في الآية الأخرى : ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ (الأنعام:114)
تنبيهات وفوائد :
التنبيه الأول : نوع الخلاف وثمرته :
الخلاف بين الأقوال السابقة في تفسير هذه الآية منه ما هو خلاف تنوع ، ومنه ما هو خلاف تضاد . فالخلاف بين القولين الأول والثالث خلاف تضاد ، والخلاف بين بقية الأقوال خلاف تنوع ؛ لأنه لا تعارض بينها في الجملة
وثمرة هذا الخلاف : التوكيد على رفع توهم وقوع الشك من النبي (ص) ، وتكثير الوجوه الدالة على ذلك .
التنبيه الثاني : سبب الخلاف :
سبب الخلاف في المسألة الأولى هو توهم البعض أن ظاهر الآية يدل على وقوع الشك من النبي (ص) ؛ ولما كان الواقع خلاف هذا التوهم تنوعت أقوال المفسرين في توجيه الخطاب ، وحصل الخلاف بينهم في ذلك .
وفي المسألة الثانية ؛ سبب الخلاف هو احتمال اللفظ للقولين من جهة العموم والخصوص ، كما أنّ من أسباب ذلك اختلافهم في زمن نزول الآية ؛ هل هي مكية أو مدنية . وبيان ذلك في التنبيه الثالث
التنبيه الثالث : لمّا كان قول من قال : "إن المراد بالذين يقرأون الكتاب في الآية المؤمنون منهم" لا يتفق مع كون هذه السورة مكية ؛ ذهب بعضهم إلى أن هذه الآية مدنية ، وهي مما استثني من آيات هذه السورة . ولا شك أنّ هذا لا يقبل إلا بحجة بيّنة ، واستثناء بعض الآيات من سورة مكية خلاف الأصل ([24]). قال ابن عاشور تعليقاً على أقوال من استثنى بعض الآيات من سورة يونس المكية : ( وأحسب أن هذه الأقوال ناشئة عن ظن أن ما في القرآن من مجادلة مع أهل الكتاب لم ينزل إلا بالمدينة ، فإن كان كذلك فظن هؤلاء مخطىء .)([25])
....................................................................................
([1] )
أخرجه ابن جرير 15/202 ، وسبق الحكم على الإسناد إلى قتادة ، والحديث مرسل كما هو ظاهر .
([2] )
أخرجه ابن جرير 15/201 .
([3] )
جامع البيان 15/200-201 ، وبين النصين اختلاف في بعض مفردات .
([4] )
أخرجه ابن جرير 15/201 .
([5] )
أخرجه ابن جرير كذلك 15/201 . وفي إسناده الحسين بن الفرج : شيخ لا يعبأ بروايته ، قال فيه ابن معين : "كذاب ، صاحب سكر ، شاطر " . والطبري يروي عنه كثيراً بإسناد مجهل : " حدثت عن الحسين بن الفرج" . انظر تعليق شاكر على الأثر رقم 2719 في تفسير الطبري 3/408
([6] )
مثل مشهور ، يضرب لمن يتكل بكلام ويريد به شيئاً غيره . انظر قصة هذا المثل والأبيات التي جاء فيها في مجمع الأمثال للميداني 1/69-70 .
([7] )
معاني القرآن وإعرابه لأبي إسحاق الزجاج 3/32 .
([8] )
تأويل مشكل القرآن ص272-274 وقد علق ابن قتيبة على هذا التأويل بقوله : ( وهذا ، وإن كان جائزاً حسناً ، فإن المذهب الأول أعجب إلي ؛ لأن الكلام اتصل حتى قال : ﴿ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ . وهذا لا يجوز أن يكون إلا لرسول الله صلى الله عليه ) . ويقصد بالمذهب الأول : أن تكون المخاطبة لرسول الله (ص)، والمراد غيره من الشكاك . وهو ما اعتمده في تفسير غريب القرآن ص199 .
([9] )
أحكام أهل الذمة 1/12-15 ، وبدائع التفسير 2/410-414 .
([10] )
انظر جامع البيان 15/200-
([11] )
انظر المحرر الوجيز 7/217-218 .
([12] )
انظر التفسير الكبير 17/128-130 .
([13] )
ضعف الألوسي تفسير الشك بالضيق ، وحكم عليه بأنه بعيد جداً . انظر روح المعاني 11/190 .
([14] )
انظر الجامع لأحكام القرآن 8/382-383 .
([15] )
ووافقه الألوسي على هذا الحكم . انظر روح المعاني 11/190 .
([16] )
انظر البحر المحيط 6/105-106 .
([17] )
سبق تخريجه قريباً .
([18] )
تفسير القرآن العظيم 4/1772 .
([19] )
انظر التحرير والتنوير 11/284-285 .
([20] )
روح المعاني 11/190 .
([21] )
انظر الوسيط للواحدي 2/559 .
([22] )
انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/32-33 ، وقد نص على أن هذا القول أحسن الأقوال .
([23] )
انظر الكشاف للزمخشري 2/203 .
([24] )
وهذا من الأصول المهمة في هذا الباب ؛ فالسورة التي يثبت نزولها بمكة تكون جميع آياتها مكية ، ولا يقبل الادعاء بأن شيئاً من آياتها نزل بالمدينة إلا بدليل يجب الرجوع إليه . والأمر كذلك السور المدنية . انظر قواعد التفسير للدكتور خالد السبت 1/77-78
([25] )
التحرير والتنوير 11/78


...............................................


بحث لفضيلة الدكتور: أبي مجاهد محمد بن عبدالله العبيدي القحطاني
جامعة الملك خالد- أبها

تاريخ الاضافة: 26-11-2009
طباعة